سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف.
وقال في المنافقين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} لان قلوبهم مختلفة ولكن يضم بعضهم إلى بعض في الحكم.
الثانية: قوله تعالى: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال: كل ما ذكر الله في القرآن من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. وقد مضى القول في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة المائدة وآل عمران والحمد لله.
الثالثة: قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} تقدم في أول البقرة القول فيه.
وقال ابن عباس: هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية: والمدح عندي بالنوافل أبلغ، إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض.
الرابعة: قوله تعالى: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ} في الفرائض {وَرَسُولَهُ} فيما سن لهم. والسين في قوله: {سيرحمهم الله} مدخله في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه، وفضله تعالى زعيم بالانجاز.


{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ} أي بساتين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار. وقد تقدم في البقرة أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود. {خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً} قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام. {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي في دار إقامة. يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه المعدن.
وقال عطاء الخراساني: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن عز وجل.
وقال ابن مسعود: هي بطنان الجنة، أي وسطها.
وقال الحسن: هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل، ونحوه عن الضحاك.
وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. {ورضوان من الله أكبر} أي أكبر من ذلك. {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.


{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتدخل فيه أمته من بعده. قيل: المراد جاهد بالمؤمنين الكفار.
وقال ابن عباس: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ. وروي عن ابن مسعود أنه قال: جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم.
وقال الحسن: جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان- واختاره قتادة- وكانوا أكثر من يصيب الحدود. ابن العربي: أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لان أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين الثانية: قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الغلظ: نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الامر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها». ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. ومنه قول النسوة لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعنى الغلظ خشونة الجانب. فهي ضد قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}. وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح.

18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25